كان يوما ماطرا من أيام فصل الصيف، حيث تهطل الأمطار متصلة أياما، تغسل كل شيء وتعيق الحركة، كما تملأ الجو رطوبة خانقة. كانت الساعة تشير إلى انقضاء اليوم في العمل والكل يستعد لرحلة العودة إلى بيته، حيث تزدحم الشوارع وتتقاطع العربات والباصات والسيارات – هذه بومبي في الصيف فصل الأمطار الموسمية.
رن هاتفي ليبلغني أحد العاملين بقسم المبيعات (كنت مسؤول الخطوط السعودية هناك) أن رجلا مسنا يجلس في الدور الأرضي منذ الصباح. لا يعلمون ما حاجته، ولا يفهم عليهم.
طلبت منه أن يدله على مكتبي، فأوصله الموظف وهو يوكئه، فوقفت له، مرحبا… أهلا يا عم.. فهمهم بلهجته بأنه متعب.. فأجلسته على أول مقعد، فقد كان يمشي بصعوبة حاملا حقيبة تبدو ثقيلة، وهي متوسطة بين حقيبة اليد والملابس، وعلى عينيه نظارة سميكة تدل على ضعف بصره الشديد.
سألته ماذا يريد، فعرفت منه أنه تزوج بالأمس وأن أهل العروس أحضروه إلى مكتبنا في الصباح لينتظرهم ريثما ينتهون من شراء ملابس العروس وحليها..
سألته إن كان يعرف اسم العروس أو عنوانها؟ فأجاب بالنفي!
شعرت أن في الأمر ريبة واحتيالا.. سألته ماذا يريد الآن وقد انتهى النهار؟
فقال بلهجته (احتري المره) يقصد ينتظر زوجته.
أدركت أن العجوز تعرض للابتزاز.. فالكثير ممن يتعرض لهذه الحالات بهذه المدينة لا يجدون سوى العودة بخفي حنين بعد أن يطير المهر والعروس التي غالبا ما تكون صغيرة فقيرة يفرح أهلها بالغريب القادم بماله الذي سيكفيهم مؤونتها، وإن كان الغريب يبحث في أغلب الأحيان عن ممرضة أو أقلها خادمة جاء يتوكأ على ما يزيد على سبعين خريفا.. يعاني من كل الأوجاع والقصور.. ولكن قاتل الله الفقر وقاتل الله الأنانية.
أدركت أمام الرجل أن لا سبيل لتركه وحيدا في هذا المساء الموحش الغزير المطر دون مساعدة. فعرضت عليه أن يذهب إلى المطار مع سائق المكتب ويغادر على رحلتنا تلك الليلة، بعد أن وجدت تذكرته وجواز سفره، وأظنهما كل ما لديه وقتها.
قرأت اسمه في التذكرة وأيقنت أنه مكتوب خطأ، فقد ظهر (SAHAN) فقلت في نفسي أظنه حسن.. فبادرته بصوت مرتفع: يا عم حسن أنصحك بأن تسافر اليوم!
فارتحل الرجل وصاح غاضبا أتغير اسمي؟ وقال منفعلا اسمي (صحن)، وشعرت أني وقعت في خطأ جسيم.. ولكن أعدت الاقتراح قائلا بنفس الصوت.. يا عم صحن.. أنصحك بالسفر!
فقال بلهجته.. لا! (احتري المره).. ووقف بصعوبة متأففا مني.. وحمل حقيبته متوكئا على عكازه، مثقلا بمعطفه في حر بومبي ينوء بوجعه وسنواته السبعين.. وهم بمغادرة المكتب مصرا على انتظار زوجته وأهلها أمام المكتب في الدور الأرضي. طلبت من الموظف مساعدته وإيصاله بالمصعد، كنت أظن لحظتها أن علاقتي بالعم صحن قد انتهت مع مغادرته متبرما من مكتبي.
بعد شهر من هذا الموقف الذي شغلني بعض الوقت، ليس بالعم صحن ولكن لهذه الظاهرة التي كنت أراها تتكرر في هذا البلد، إما ابتزاز لكبار السن أو ابتزاز للصغار، ولا أظن أن ما كان يحصل – وقد يكون مستمرا حتى اليوم – هو من العدل أو الحق في شيء.. إنها معادلة خاسرة لطرفين جمع بينهما الفقر والأنانية، فرجل تجاوز السبعين وفتاة دون العشرين غالبا تساق من غربة الفقر بين أهلها إلى غربة أخرى في بيئة لا تعرف لغتها ولا ناسها، غربة للنفس وكذبة للجسد، بعد شهر جاءني رجل بتوصية من زميل في أمر بسيط، وبعد أن أتممتها له أصر على دعوتي إلى مدينته بالمملكة، ووعدته خيرا إن توفر الوقت، وسنحت الفرصة بعد تكرار الدعوة هاتفيا بعد مغادرته، وكانت زيارة رائعة لتلك المدينة التي اشتهرت وأهلها في التاريخ بالكرم.
وفي المساء حضر العشاء كثير من الضيوف لمنزل الداعي، وكان السمر على حكايات الهند وعجائبها، وبينما أنا أذكر لهم قصة ابن مدينتهم العم صحن، الذي خرج غاضبا في ذلك اليوم الماطر وقد قاربت الشمس على المغيب، في مدينة تزدحم بكل أصناف البشر، والتي يتعرض فيها كثيرون من أمثاله للنصب بسبب جهلهم باللغة والقانون، صاح رجل في آخر المجلس قائلا: تقصد العم صحن الذي عرس على الهندية؟ إنه يسكن معها قريبا من هنا.
عاد بي الشريط إلى الوراء وتخيلته حيث كان يجلس متعبا وأمامه حقيبته مصرا أن (يحتري المره)، وتذكرت إصراري أن يغادر سريعا وقد تركوه بتذكرته وجواز سفره فقط ظنا مني أنه تعرض للاحتيال.
ابتسمت في نفسي متعجبا وقلت: كان العجوز محقا، وقد أحسن صنعا أنه لم يأخذ بنصيحتي، وعساه أن يعيش في ثبات ونبات، أما الصبيان والبنات فعلمهم عند ربي
